-A +A
محمد مفتي
يخطئ من يعتقد أن الحروب بين الدول تتخذ دوماً صورة المواجهات العسكرية سواء كانت بين طرفين أو أكثر، ولعل الحروب الدبلوماسية أشد وقعاً وتأثيراً من الحروب العسكرية، وكثيراً ما تنتج عنها أزمات متتالية قد تصيب دولة أو أكثر في مقتل، والحروب الدبلوماسية لا تتعلق بالصراحة المطلقة ولا تعتمد على مدى عدالة القضايا محل الخلاف، وإنما تعتمد على ما يدور علانية داخل أروقة المنظمات الدولية بهدف خنق بعض الأنظمة السياسية، أو خفية من خلف الكواليس، يحركها كومبارس سياسي توجهه بعض القوى المؤثرة لهز صورة دولة معينة أمام الرأي العام العالمي، وفي العصر الراهن نجد أن هناك الكثيرين ممن وجدوا بغيتهم وسال لعابهم للقيام بدور الكومبارس السياسي مقابل حفنة من المال حتى وإن كانت قليلة، كونهم لا يجيدون لعب دور آخر بعد أن باعوا ضميرهم بثمن بخس لمن اشتراه بأرخص الأثمان وأحقرها.

مرة أخرى يخطئ من كان يظن أن ثورات ما سمي بالربيع العربي كانت ثورات لحظية عشوائية غير مخطط لها، والمتتبع لتصريحات بعض الدول الغربية خلال تلك الثورات يلاحظ أن سياسييها كانوا حريصين على النفخ في الرماد لتشتعل نيرانها مرة أخرى كلما انطفأت، ناهيك عن مليارات الدولارات التي تم صرفها على المرتزقة من هنا وهناك ليتسللوا داخل الدول التي أصابتها الانتفاضة، لبث الرعب في قلوب الشعوب وبالتالي تزيد الهوة بين النظام السياسي والشعب بذريعة عدم الاستقرار الأمني.


عند الانفلات الأمني تذوب كل القيم وتنصهر جميع القيم الأخلاقية لتصب في صالح الدمى التي لا شغل لها سوى تنفيذ أجندات معينة خُطط لها سلفاً، إما مقابل المال أو للوصول لقمة السلطة بدلاً من النظام الذي ارتعدت فرائصه، ليجد المواطن نفسه بين المطرقة والسندان، وعندها تسقط أجهزة ومرافق الدولة غنيمة للمتسللين والمرتزقة وعصابات الطرق كما حصل في العراق عندما سقط النظام الحاكم في العام 2003، ومن الواضح أن ما يدور في بعض مناطق ودول الوطن العربي حتى اللحظة الراهنة يبرهن بما لا يقبل الجدل على أن تلك القوى لا ترغب في بناء دولة ونظام آخر بعد زوال النظام الذي تمت الإطاحة به، فالهدف ليس فقط التدمير اللحظي الذي يحدث عند سقوط الأنظمة الحاكمة، ولكن الهدف الجوهري هو خلق فراغ سياسي لسنوات يساعد في تدمير ما تبقى من قيم الدول المنهارة قبل مرافقها.

لم تكن المملكة العربية السعودية بعيدة عن تلك المؤمرات الخسيسة، بل على العكس، فبعض القوى الغربية والإقليمية كانت ولا تزال تأمل في أن يصيب الجسد السعودي بعضاً مما أصاب بعض دول المنطقة المنكوبة، وبفضل الله فشلت جميع المؤامرات في أن تتسلل تلك الفوضى ولو لشبر واحد فقط داخل حدود المملكة، وهو ما دفع بعض الأطراف إلى استهداف أمن المملكة من خلال دفع بعض المليشيات الخارجة على القانون لمهاجمتها في شكل حرب استنزافية طويلة المدى، تتمكن من خلالها تلك القوى الحاقدة من قلب الحقائق وعكس الصورة وتصوير المملكة على أنها هي المعتدِي وليس المعتدَى عليه.

وبكل أسف مع انحسار الصحافة الورقية وقلة التوزيع والتي تزامنت مع انتشار قنوات التواصل الاجتماعي والمنابر الإعلامية الإلكترونية، واجهت الكثير من المؤسسات الإعلامية خسائر جمة بحيث أصبحت تهدد وجودها من الأساس، مما حدا بالكثير من الإعلاميين المرتزقة للبحث عن ممولين لتغطية الخسائر الضخمة التي عانوا منها، وقد وجدوا بغيتهم في بعض الدول التي استطاعت -من خلال الكثير من الوسطاء- تقديم معونات مالية لهم أو شراء حصص في تلك المؤسسات، وقد أفقد هذا التوجه تلك الصحف والمنابر الإعلامية هويتها واستقلاليتها بحيث أصبحت تدار كلية من قبل حكومات معينة، تستخدمها كمنبر للنيل من المملكة وهز صورتها أمام الرأي العام العالمي.

وما يثير الاشمئزاز أن صناعة المرتزقة لم تتوقف عند الحدود الإعلامية، فقد لجأت بعض الحكومات التي كانت تدير فوضى الربيع العربي من خلف الستار إلى شراء ذمم بعض السياسيين في دول عدة، إما للحصول على تصريحات معادية للمملكة تفتقد للمصداقية، أو للتأثير على حكوماتهم لتغيير دفة القرار السياسي فيها وخاصة فيما يتعلق ببيع الأسلحة التي تحتاجها المملكة للدفاع عن نفسها، ولعل الفضيحة التي انتشرت خلال الأسبوع الماضي وباعتراف اثنين من النواب البريطانيين عن تلقيهما أموالاً من بعض الأطراف للهجوم على المملكة العربية السعودية لأبرز دليل على صدق كل ما تم ذكره سابقاً.

الهجوم على المملكة لن يتوقف طالما أن هناك أيدي قذرة تجيد استخدام أموالها لزعزعة المنطقة، والمملكة تمثل ثقلاً اقتصادياً وإقليمياً لا جدال عليه يمثل سداً صامداً في وجه أية تقلبات قد تصيب الجسد الخليجي، ولذلك فالهجوم المستعر عليها أقوى من أي هجوم آخر يتم شنه على أية دولة أخرى من دول الخليج العربي، لكن بفضل الله ثم بفضل القيادة الحكيمة للمملكة فإن كل هذه المحاولات تبوء دوماً بالفشل، فاللحمة الوطنية بين القيادة والشعب السعودي هي أساس دعائم استقرار الأمن والأمان في هذا البلد الكريم.